نتفيَّؤ وإياكم حديثًا عظيمًا، وبشارةً كريمة بشَّر بها نبي الله في حديث جليل، بشارة أفرحَت الصحابةَ رضوان الله عليهم، فما فرحوا بشيء كفرحهم بهذه البشارة النبوية الجليلة، وقد جاء هذا الحديث مِن طُرق متعددة في الصحاح والسنن والمسانيد.

ومن ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أنَّ رجلًا سأل النبي عن الساعة، فقال: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: (وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟) قَالَ: لَا شَيْء إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ).

قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ أعْمَالَهَم.

فهذا الحديث يُقرِّر هذه المسألة الكبرى وهي: أن المرء مع مَن أحب، وأنه يكون معه يوم القيامة حيث الحشر والنشر، وحيث الجزاء أيضًا، ذلك أنَّ المحبة عملٌ جليل من أعمال القلوب، وأعلى وأشرف درجاتها حبُّ الله تعالى، وهذه منزلة السابقين المخلَصين كما أخبر الله تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وأهلها يجدون لها سعادة وطمأنينة لا تُوصف، كما يدل عليه الحديث الصحيح: (ثلاث مَن كُنَّ فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإيمانِ: أن يكُون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يَكْره أن يعُود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يَكْره أن يُقذف في النار).

هكذا هو المؤمن؛ محبته سامية عالية شريفة جليلة، ولذلك فمَن أَحبَّ لله تعالى فإنَّ محبته مِن أعظم ما يقربه إلى الله، فالله جل شأنه شكور يعطي المتقرِّب إليه أعظم بأضعاف مضاعفة مما بَذَلَ.

ومن شكره سبحانه لهذا العبد الذي أحبه وأحب رسله وأحب الخير وأحب أهل الخير أن يجعله في المنازل العالية وإنْ قصر عمله، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، هؤلاء هم أعلى الخليقة منزلة؛ النبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالحون، فيُلحق بهم المرء ببركة ما قام في قلبه مِن حبه لهم تبعًا لحبه لله ولشرعه جل وعلا.

اقرأ أيضا: “النساء شقائق الرجال” .. الميثاق الإسلامي لحقوق المرأة

وهذا الحديث المتقدم: (المرء مع مَن أحبَّ) هو مِن جوامع كَلِم النبي ، فهذه العبارة مع أنها مقتصرة على ثلاث كلمات لكن تحتها معانٍ غزيرة ودلائلُ جليلة، ولذا قال العلماء: إنَّ مما تضمَّنه هذا الحديث التحذيرُ الشديد مِن محبة أهل الفسوق والعصيان، فإنَّ المحبة دليل على قوة اتصال بمن يحبه هذا المحب، ومناسبته لأخلاقه واقتدائه به، وهو نوع مِن سوء الأدب مع الله، الله لا يحب أهل العصيان، ولا أهل الفسوق والكفران، ولا مَن يحادُّه بالعصيان، فيأتي هذا الإنسان ليحب هؤلاء المحادِّين لله، فأي سوء أدب يحصُل مِن هذا الإنسان!

ألا ترون في حياة الناس كيف أن الإنسان إذا كان محبًّا لأحد يقدِّره؛ ممن له عليه فضل ومعروف؛ من والدَين أو قرابة أو رئيس أو غيرهم ممن يحبهم ويجلُّهم، ألا ترون أنه يجافي مَن يجافيه محبوبه ومقدِّره هذا؟ وهذا مِن مقتضى الأدب معه؛ لا يليق أن تحب إنسانًا ثم تتقرب إلى مَن يُعاديه ومَن يُسيء إليه، هذا مقتضى العقل والرشد والأدب.

وأعظم هذا العقل وأعظم هذا الرشد والأدب أن يكون هذا موقفك مع من يحادُّ الله ورسوله، فالذين يستعلِنون بالعصيان، ويُبارزون الله بالكفران واجب عليك أن تخلِّص قلبك مِن حبهم، بل واجب عليك أن يستقر في قلبك بُغضُهم ومجافاتهم.

ولذلك تكون الندامة الكبرى يوم القيامة لأولئك الذي أحبوا مَن حادُّوا الله ورسوله، كما أخبر الله في كتابه الكريم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 – 29]، وليس المقصود في هذا المقام الحبُّ الدنيويُّ الفطري الذي باعِثُه قرابة أو صداقة أو مقتضًى مِن مقتضى التعايش، الذي يؤدِّي بك إلى إسداء الخير لهذا الذي ارتبطتَ به ارتباطًا فطريًا أو اجتماعيًا، فالرسول كان عمُّه أبو طالب برغم عدم إقراره بالتوحيد، لكنه كان محبًّا له، وكان يخدمه ، وكان أيضًا له جارٌ يهودي فلم يمنعه أن يزوره لما مرض، وكان في جواره في المدينة مِن اليهود مَن تَعامَل معهم فباع واشترى، وقبِل الهدية، هذه التعاملات المعيشية لا تَمنَع الشريعةُ منها، وها هو رسولُنا يقُوم بها على هذا الوجه العظيم الشريف، ولكنَّ الذي تَمنَع منه الشريعة أن يكون في قلب المسلم محبةٌ لهؤلاء باعتبار ما هم عليه من الأخلاق والاعتقاد، ومتابعتُهم على ما هم فيه مِن الانحراف، ولذلك يُحْذر الحذر الشديد لأولئك الذين تتعلق قلوبهم بمن يستعلنون بالمعاصي ثم يُتابَعون عليها، إما حضورًا لمجالسهم التي يُعصى اللهُ فيها أو استماعًا لما يتلفظون به من العصيان أيًّا كان نوع هذا الكلام.

وهذا الحديث الشريف الذي قرَّر فيه النبي هذا الأصل العظيم (المرء مع مَن أحب) مؤيَّدٌ بالقرآن العزيز؛ كما يدل عليه قول ربنا سبحانه: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7]؛ أي: جُمِعَ كلُّ شكْل إلى نظيرِه، قال العلماء؛ أنه في يوم القيامة يُضمُّ إلى كلِّ صنف مَن كان مِن طبقته مِن الرجال والنساء، فيُضمُّ أهل الطاعات إلى أمثالهم، والمتوسطون فيها إلى نظرائهم، وأهل المعاصي إلى أمثالهم، فالتزويج يوم القيامة {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}: أن يُقرَن الشيء بمثله، والمعنى أن يُضمَّ كل واحد إلى طبقته في الخير والشر.

وهذا كقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر: 71]، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73]، وفي هذا يقول العلَّامة ابن القيم رحمه الله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}؛ أيْ: قَرَنَ كُلَّ صَاحِبِ عَمَلٍ بِشَكْلِهِ وَنَظِيرِهِ، فَقَرَنَ بَيْنَ الْمُتَحَابَّيْنِ فِي اللَّهِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَرَنَ بَيْنَ الْمُتَحَابَّيْنِ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِي الْجَحِيمِ، فَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ شَاءَ أَوْ أَبَى.

اقرأ أيضا: وفِرّوا من الدَّيْن فِراركم من النَّار

وتأمَّلوا رحمكم الله في هذا الوعيد الربَّاني الذي جاء في القرآن خبرًا عما يكون في مشهد يوم القيامة؛ أمرٌ رباني إلى الملائكة: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات: 22 – 24]؛ أي: اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم فاهدوهم إلى النار ليدخلوها جميعًا.

قال العلماء: والمراد بقوله سبحانه: {وَأَزْوَاجَهُمْ} في قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} يعني: أشباههم ونظراءهم وأمثالهم في الشِّرْك والكفر والعصيان، وهذا التفسير مأثور عن عددٍ من الصحابة والتابعين؛ منهم عمر، والنعمان بن بشير، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وغيرهم.

نقل ابن كثير رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} قَالَ: أَشْبَاهَهُمْ، قَالَ: يَجِيءُ صَاحِبُ الرِّبَا مَعَ أَصْحَابِ الرِّبَا، وَصَاحِبُ الزِّنَا مَعَ أَصْحَابِ الزِّنَا، وَصَاحِبُ الْخَمْرِ مَعَ أَصْحَابِ الْخَمْرِ.

قال المفسرون رحمهم الله: يَأمر الله تعالى الملائكةَ أن تجمع بين مَن كانوا يجتمعون في هذه الدنيا على ما يُغضب الله أن يجمعوا جميعًا في عذاب الآخرة، فعلى ذلك يجمع بين أولئك وبين قرنائهم، ويُقرن بعضهم إلى بعض في العذاب كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 36 – 39].

في الدنيا إذا عَمَّت المصيبة هانت على كثير من الناس، أما في الآخرة إذا أُدخل هؤلاء إلى النار فلن يُخفِّف عنهم أنهم جميعًا في هذا العذاب مشتركون.

فتأمَّل يا عبد الله أين مُتَوَجَّهُ قلبك؟ ومَن يحب؟ فإن كان محبًّا لأهل العصيان فأنت على خطر عظيم، وما الذي تستفيده أن يتعلق قلبك بعاصٍ؛ لأنه على طريقة معينة أو شاكلة محددة، ما الذي تستفيده غير أن يُفسد قلبك، وأن يؤدِّي بك إلى هذا الخطر العظيم الذي جعلتَ نفسك فيه محادًّا لربك، ربك يحب الخير والبرَّ وأهلَه، وقلبك يتوجه إلى أضداد هؤلاء، فأي خسار أعظم من هذا!

ـــــــــــــــــــــــــــــ

من خطبة للدكتور / خالد بن عبدالرحمن الشايع

Tags:

سجل دخول بمعلومات حسابك

Forgot your details?