الهم والحزن من الابتلاءات التي تصيب الإنسان وتستوجب الصبر، مع تلمس سبل الشفاء منهما، وهي أحد أهم المشاعر الإنسانية السلبية التي تصيب الأنسان فتفسد عليه حياته، إن ظل يدور في فلكهما ولم يبحث عن العلاج، فتراه يرى النعمة نقمة، ويعيش في رغد العيش ويكاد لاينقصه شيء من متع الدنيا، ومع ذلك لايشعر بالسعادة، وتفسد عليه الطمأنينة في صلاته وفي حركة حياته.
وهذه الحالة اليائسة الضيقة من عدم الارتياح والاستياء وفقدان السرور هي الحالة التي يهجم فيها على المرء الهم ويتربص به ضيق الصدر والشعور بالفشل..

تأثير الهم والحزن

فهو إحساس يكون فيه الفرد نهباً للشعور الداخلي السلبي والفشل وخيبة الأمل، واختفاء الابتسامة والانشراح، وظهور العبوس وعدم الابتهاج والأسى الممزوج بفقدان الهمة والتقاعس عن الحركة، والعزوف عن بذل أي نشاط حيوي، ولربما العزوف عن الحيوية والحياة بكاملها –في بعض الحالات- ليصل إلى مراتب اليأس من فرص الحياة الطيبة في المستقبل.
وقد أشار العلماء والمتخصصون أن ذلك الشعور إذا استسلم المرء له نهبه وأكله، وصار سمته تراجع في الفكر وضمور ينتهي في الفراغ الحاصل فيه، وإنه ليتطور ليشلّ العقل عن ممارسة دوره السليم في التحليل والتمييز وإصدار التعليمات لباقي أعضاء الجسم وغدده. ومن هنا نجد أن كثيراً ما يصاحب الهموم والأحزان بعض الأمراض الفسيولوجية مثل القرحة، وسوء الهضم، وآلام القولون ووجع المفاصل والصداع والأرق… وغيرها الكثير.

يقول ابن القيم رحمه الله: “أربعة تهدم الجسم: الهم والحزن، والجوع، والسهر”، وقد تعوذ النبي ﷺ من الهم والحزن:
…عن أنس _رضي الله عنه_ ورواه البخاري أن النبي ﷺ كان كثيراً ما يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من ضلع الدين وغلبة الرجال”. وكأن النبي ﷺ قد جمع معاني السعادة الدنيوية الكاملة، والتي لها أكبر الأثر في المآل والآخرة في تلك الأمور التي ذكرها في ذلك الحديث، والتي هي في الحقيقة منغصات حياته ومسببات حزنه وضيقه، وهى:

الهم: وهو ضيق الصدر الذي سببه ما يظنه المرء ويتوقعه مستقبلا،

الحزن: وهو الضيق الذي سببه ما يفكر فيه المرء مما مضى،

العجز: وهو عدم قدرة الآلة والجوارح عن القيام بما يأمله الإنسان ويطمح به،

الكسل: وهو القعود عن المعالي والركون إلى الراحة وعدم السعي وبذل الجهد لتحقيق المطالب،

الجبن: وهو العجز عن الشجاعة والإقدام،

البخل: وهو العجز عن الجود بالمال في الصدقة والزكاة والإيثار…

اقرأ أيضا: صفات المسلم المؤثر

الأسباب وراء الهموم والأحزان

تختلف الأسباب التي تجلب الهموم وتتسبب في الأحزان المستمرة، ولكنها قد تجتمع في عدة محاور تدور حولها:
1- عدم تلبية حاجات القلب العقائدية: فالقلب في فاقة دائمة لا يمكن أن يسدها سوى قوة العقيدة في الله سبحانه، ومن أهمل تقوية ذلك كان شاعراً بنقص مستمر وفراغ لا نهائي وهو لا يدري سببه.

2- عدم الإنجاز: فأصحاب الإنجازات والذين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم ولمجتمعهم قدراً كبيراً من التقدم الإيجابي غالباً ما يطردون الهموم، حيث يكون همهم منصباً على رفعة أمتهم، وتقدم ذواتهم في تحقيق التقدم المطرد. وعلى العكس فالذين لم يحققوا إنجازاً يذكر طوال أعمارهم وينظرون خلفهم، فلا يجدون إلا فراغاً، فهؤلاء يكون الهم أكثر قرباً منهم.
3- الانكسار وفقدان العزة: فالعزة مصدرها قوة اليقين وصدق الانتماء، وهما متحققان في المؤمن الذي أيقن بربه وبموعوده، وصدق في الإنتماء لدينه ولأمته معتقداً فضلها ورفعة قدرها، مهما مر بها من ظروف ضعف أو هزيمة. قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}، أما المنهزمون الذين يقيمون قدر الأمم تقديراً خاطئاً ويضعف انتماؤهم لأمتهم، فهؤلاء أكثر الذين يتعرضون للانكسار والذل والهزيمة.
4- عدم تحقق الأهداف: فكل إنسان له مرادات وآمال وأهداف وضعها لنفسه، لا تغيب عن ذهنه يسعى لها، ويحاول تحقيقها في كل يوم. ومن قصرت به أحواله وطاقاته وقدراته عن تحقيق أماله وأهدافه، كان عرضة للهموم والأحزان المتكاثرة.
5- البعد عن البيئة الإيمانية الصحية: فالإسلام قد أنشأ بيئة إيمانية يمتنع عنها الهم، وتتباعد عنها الأحزان. تلك البيئة هي بيئة الأخوة الإيمانية والعلاقات الشفافة النقية، التي هي بلا مصالح شخصية، ولا منافع دنيوية. فشرع لهم خمس صلوات يجتمعون فيها في المساجد، وشرع لهم تواصل الأرحام، وعلاقات الجيرة، والأخوة الصادقة المخلصة. ومن ابتعد عن تلك البيئة وأهملها، صار فريسة للوحدة والانعزال، وصار طعماً للهموم والأحزان.
الهم والحزن إذن داءان ضاران بالإنسان المسلم، لابد أن يحاول جاهداً أن يطردهما عنه ما استطاع، و إلا وقع فريسة، لهما فأقعداه عن المعالي وحطماه عن الإنجاز. لذلك كان من المهم أن نتناول هذه القضية المؤثرة على نفس الإنسان وسلوكه، ونرى منهج الإسلام في تناولها، وبيان طرق علاجها والخروج منها.

اقرأ أيضا: كلما أذنبت.. تبت

الأطباء ورؤيتهم للقضية

يسمي الأطباء ذاك الداء الذي نحن بصدده “بمرض الاكتئاب”، ويرون أنه داء عصري قد انتشر انتشاراً فاق كل تصور، والمصابون ليسوا متجانسين سواء من الناحية الاقتصادية -الطبقية أو الثقافية- فمنهم المترف الذي يعاني من فائض الرفاهية والتخمة ومنهم الفقير الذي لا يحصل على الحد الأدنى من متطلبات العيش. لهذا فنسبة الانتحار على سبيل المثال تتعاظم في دول أوروبية التي هي مثار حسد الدول الفقيرة؟ والمتخصصون النفسيون يقرون بأنه لا علاج للداء يماثل العلاج الإسلامي له:
يرى المتخصصون أن دراسة موضوع الاكتئاب وعلاجه، يعتبر من المواضيع الهامة في العصر الحديث وأنه رغم كثرة العلاجات النفسية الموصوفة له فإن ذلك يعدم الجدوى الحقيقية.. إذ سرعان ما تنتهي العقاقير ويرجع الاكتئاب إلى النفس من جديد.. ولا غرو أن نجد الكثير من السلبيات المصاحبة للاكتئاب عند المعالجة أو قبلها مثل الإدراك المشوب بالسلبية والروح الانهزامية من الأحداث الخاصة الداخلية للفرد والخارجية المحيطة به، كما نلاحظ توتر العلاقات الاجتماعية نظراً لذلك وصعوبة التعامل بشكل واضح وسليم مع الآخرين.
بل إنه يمكننا الجزم والتأكيد –بناء على تقارير المتخصصين– على قصور العلاج النفسي السريري للاكتئاب في الكثير من الحالات لخلوه من التشخيص الدقيق لعلة الاكتئاب أو لعدم توفر العلاج الناجع وبالنهاية لا توجد حيلة للمعالجة

العلاج في نظر الإسلام

الحقيقة التي يجدر أن نشير إليها هنا هي أن العلاج القرآني بكل درجاته ومقاييسه لم يكن سريرياً بل علاجاً تحريضياً إيحائيا للفرد يدفعه إلى التقوى والإيمان بربه وتوثيق حبل علاقته به كما يدفعه الى التوكل عليه واليقين بقدرته سبحانه والتسليم بالقضاء والقدر واليقين في أثر الدعاء والمناجاة للخالق سبحانه. كما أنه علاج تحريضي سلوكي للفرد يقوم به بصورة ذاتية وثابتة حتى يصل لدرجة التلقائية، فهو يدعوه إلى الإنجاز والنجاح وإثبات الأثر وإصلاح الحياة والمجتمع..
ولذلك استطاع علماء الإسلام ودعاته الاتفاق على عدة محاور لحرب داء الهم والحزن وطردهما.. ومن ذلك:

أولاً: الرضا

وأقصد به الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا والرضا بقضاء الله وقدره يقول النبي ﷺ: “ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً” رواه مسلم.
إن عمل الرضا في النفس البشرية عمل عجيب إذ إنه يذيب شتى أنواع الآلام والأحزان الناتجة عن التعرض للمواقف والمشكلات أو المصائب التي ربما تحدث للإنسان فتزيده اكتئاباً أو تظلم الحياة في عينيه يقول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:155 – 157)

اقرأ أيضا: كيف تتعلم التسامح والنسيان؟

ثانياً: القناعة

وأقصد بها هنا معنى قد يخفى على كثير من الناس، وهو بينه وبين الرضا علاقة عموم وخصوص. فالقناعة هي قبول الحظ المقسوم للإنسان من الرزق والمال والأولاد والقوة والصحة والمتاع، يقول النبي ﷺ: (ليس الغنى بكثرة العرض إنما الغنى غنى النفس) رواه مسلم.
وأثر القناعة كعلاج للهموم هام جداً، إذ إن كل قنوع غير متشوف لما في أيد الناس، وغير ساخط على حاله من الفقر أو الصحة أو غيره.
يقول الشافعي: أمَتُّ مطامعي فأرحتُ نفسي، فإن النفس إن طمعت تهون.

ثالثاً: ذكر الله

قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:97-99)
وقال سبحانه: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ ٱللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ}.
ذلك أن الذكر هو العبادة التي يتزود منها السائر إلى الله سبحانه في سيره، ومثله كمثل الزاد للمسافر تمامًا، فإذا نقص زاده وقلّ طعامه، خارت قواه وضعفت جوارحه، فوجب عليه عندئذ أن يعود إلى التزود.
يقول ابن القيم _رحمه الله_: ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الصبح، ثم يقعد يذكر الله سبحانه إلى أقرب من نصف النهار، وكان يقول: هذه غدوتي وإن لم أتغدَّ لم أتقوّ ليومي.
ذلك فالذكر هو مكان التزود للسير في الطريق، وهو المنـزلة التي يتردد عليها دائماً أهل الإيمان والجهاد والتقوى.
فقال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَٰٓئِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون} (الأعراف 201)
وذكر الله سبحانه سلاح المؤمن في كل المواطن والمواقف والمشكلات والأزمات، وبه يدفع المؤمن عنه الأمراض، وتكشف الكربات، وتهون عليه المصائب. والمؤمن الحق هو الذي يفزع إلى ذكر الله إذا نزل به بلاء أو مصيبة، ويلجأ إليه إذا دارت عليه دائرة أو حلَّت به نازلة.

رابعاً: الإنجاز والعمل الصالح

لقد قرن الله كلاً من الاستقامة والعمل الصالح بالإيمان والتقوى لرفع حالة الضيق المذكورة، وذلك عن طريق الاطمئنان النفسي الذي تخلقه كل من السلوكيتين المذكورتين. فالاستقامة والعمل الصالح في عصورنا هذه بحاجة إلى جهاد نفسي، وقناعة راكزة، وإيمان راسخ، يزيد من إفرازات الامينيا الأولية في الدماغ بصورة ذاتية معتدلة، لينتفي الحزن وتحل السعادة بديلاً عنه. كما أن الإنجاز هو الحل الأقوى والأكثر أثراً في ظروف المصابين بشعور الفشل والإحباط..
ويقصد بالإنجاز هنا محاولة التركيز والإنتاج في أي شيء يحسنه الفرد المسلم مهما كان قليلاً وضئيلاً، فلئن نجح فيه فسيدفعه ذلك إلى إنجاز أكبر.

اقرأ أيضا: “النساء شقائق الرجال” .. الميثاق الإسلامي لحقوق المرأة

الهدي النبوي

ولقد علمنا النبي ﷺ أن آمال المرء يجب أن تسير في طريق الآخرة لا في طريق الدنيا، حتى الأهداف الدنيوية يجب أن تكتسي بالنية الصالحة التي تجعلها من العمل الصالح فقال ﷺ فيما رواه الترمذي والنسائي: (من كانت الدنيا أكبر همه فرق الله عليه شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يؤته منها إلا ما قسم له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله وجعل غناه في قلبه).
ودخل النبي ﷺ ذات يوم المسجد في غير وقت صلاة، فوجد رجلاً جالساً، فسأله عن سر وجوده، فأخذ يشكو للنبي ﷺ ما ألمّ به من الهم والحزن بسبب ضنك العيش، فقال له الرسول ﷺ: (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، فإذا أنت قلت ذلك أذهب عنك وقضى الله دينك)، قال أبو أمامة: “فقلتهن، فأذهب الله همي، وقضى ديني”.

ــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مواقع إلكترونية

Tags:

سجل دخول بمعلومات حسابك

Forgot your details?