من أعظم القصص التي سجلتها لنا كتب السير ما دار بين النجاشي ملك الحبشة، وبين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من حوار، وذلك عندما أرسلت قريش رسلها طالبة تسليم مهاجري الحبشة إليها، بصفتهم أي مهاجري الحبشة –رضوان الله عليهم- غلمانا سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين النجاشي –النصرانية-، فلقد كان الموقف صعباً وشديد الحساسية.
قد استخدمت قريش وسائل دنيئة ينهجها المعتدي عند ضعف حجته، فقدمت الرشاوى لبطارقة النجاشي وله شخصياً، كما عمدوا إلى إقناع البطارقة بعدم ترك الفرصة للمهاجرين للردّ على أكاذيب كفار قريش، وهو نفس الأسلوب الذي ينتهجه الإعلام في زماننا بعدم إعطاء فرصة لأهل الحق في أي حوار أمام الجماهير، إلا أن النجاشي كان ملكاً حكيماً، فلقد رأى إعطاء الطرفين فرصة للحوار.. فما الذي دار؟
قبل أن أتحدث عن الدروس المستفادة، لابد من الإقرار بأن النجاشي كان حالة مثالية، فهو يمثل طائفة من النصارى تبحث عن الحق وتدافع عن المظلومين، وهي طائفة موجودة حتى في أيامنا هذه، ولهذا السبب أختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة مهاجراً لأصحابه. لكننا نعلم جميعاً، وبالذات من سافر إلى بلاد الغرب طولاً وعرضاً، بأن في تلك البلاد أقواماً تنطبق عليهم صفات النجاشي، وهم من ذكرهم الله بقوله (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة…الآية)، والواجب علينا أن نتواصل معهم وأن نبدأ بهم في أي عملية حوارية.
لقد استخدم جعفر رضي الله عنه إستراتيجية بارعة في خطاب هذا الصنف من غير المسلمين، فجعفر رضي الله عنه لا يتحدث اعتباطاً كفرد، إنه يقوم بدور الممثل الرسمي لكبار الصحابة من مهاجري الحبشة الذين انتدبوه للقيام بهذا الدور نيابة عنهم، واتفقوا على أن لا يتكلم غيره في حضرة النجاشي، وهي قضية هامة لنجاح أي حوار. فلا بد بأن يكون الحوار هادئاً وهادفاً وإلا فلا فائدة من حوارات نشاهدها في زماننا، يغلب عليها طابع مصارعة الثيران، والانتصار للنفس، بصرف النظر عن الأهداف والنتائج. ولا بد من حسن اختيار المحاورين، فالأمر جداً خطير ولا يحتمل المجازفة، ممن يتوفر فيهم سرعة البديهة وسعة الأفق.
بدأ النجاشي بالسؤال: ما هذا الدين الذي استحدثتموه لأنفسكم وفارقتم بسببه دين قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أي من هذه الملل؟
تقدم جعفر بن أبي طالب رضي الله وقال بثبات ووضوح واحترام:”أيها الملك…! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منًّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه…”
لم يشأ جعفر أن يبدأ بمناقشة أباطيل رسل قريش، فيدخل معهم في جدال عقيم خاسر يضعف موقفه. ولم يتحدث عن عتاولة كفار قريش، فأمرهم لا يهم المستمعين لهذا الحوار، ولم يجب على أسئلة النجاشي تحديداً فهو لا يهدف في حواره إلى استعداء النجاشي أو بطارقته، ولم يستخدم أسلوب عنترة بن شداد فليس هذا مقامه، تحدث عن نفسه ومن يمثِّلهم, كشف عوار دين قومه المزعوم بطريقة غير مباشرة- فتحدث عن المجتمع الذي جاء منه ولم يشخصن الحوار فيتحدث عن جبروت أبي جهل مثلاً-.. باختصار لم يشأ الدخول في المهاترات الشخصية أو التفصيلات المملة.
كانت مقدمته هذه ضرورية لما بعدها، فدينٌ هذه حالته لا يمكن لعاقل أن يستمر في اعتناقه. كان جعفر رضي الله يستهدف عقول الحاضرين لا عواطفهم، لم يستشهد حتى هذه اللحظة من الحوار بآية، ولم يورد حديثاً. بل انصب خطابه على الأطر العامة التي تناسب ثقافة وعقليات مستمعي الحوار.
ثم انطلق رضي الله عنه في الجزء الثاني من خطابه إلى ايضاح ما أمر به نبي هذا الدين العظيم من توحيد الله، والبراءة من الشرك وهي أساس دعوة الرسل جميعاً – قبل تحريفها -: “فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واَباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان…”
ثم انطلق رضي الله عنه يعدد من مكارم الأخلاق التي أمر بها نبينا عليه الصلاة والسلام، مستعرضاً لها في قائمة تناسب مقام الحوار وأفهام وخلفية السامعين فقال:
“وقد أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات…“
فتأمل كيف منَّ الله عليه بهذه القدرة على الإيجاز في الخطاب، وتأمل كيف بدأ بهذه الجملة من السلوكيات والقيم العظيمة قبل الشروع في ذكر العبادات وأركان الإسلام التي عددها له لاحقاً:
“وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة، ونؤتى الزكاة، ونصوم رمضان.. فصدقناه واَمنا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فحللنا ما أحل لنا وحرمنا ما حرم علينا”.
ثم ختم جعفر رضي الله عنه خطابه بالحديث عن حال الظلم والقهر الذي وقع عليهم من قومهم، مما دفعهم إلى الهجرة إلى بلاد هذا الملك -النجاشي- تحديداً لعدله وفضله، فقال:
“فما كان من قومنا أيها الملك إلا أن عدوا علينا، فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان.. فلما ظلمونا وقهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا فى جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك..”
فنحن أمة تنصف مخالفها وتعد ذلك الإنصاف ديناً طاعة لربها، {كونوا قوامين بالقسط} الآية. وهنا طلب النجاشي من جعفر أن يقرأ عليه شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل.
فالتفت النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وقال: هل معك شئ مما جاء به نبيكم عن الله؟
قال: نعم قال: فأقرأه علي. فقرأ عليه: {كهيعص Ωذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا Ω إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً Ω قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} سورة مريم.
قالت أم سلمه: “فبكى النجاشي حتى أخضلت لحيته بالدموع” وبكى أساقفته حتى بللوا كتبهم، لما سمعوه من كلام الله.
ألم يكن من الممكن لجعفر أن يقرأ أي سورة أخرى من كتاب الله؟ بلى، ولكن اختار ما يناسب الموقف، فالنصارى تدور عقيدتهم على الغلو في حبِّ مريم وعيسى، وتهيج مشاعرهم عندما يسمعون اتباع دين جديد يدافعون عن مريم الطاهرة، ويقارنون ذلك بموقف يهود من مريم عليها السلام. لا بد من البدء بالقواسم المشتركة، فبدون هذه البداية سيكون الحوار متوتراً و سلبيا. لذا لم يكن من المستغرب أن تنتهي هذه المعركة الحوارية بنصر جعفر وأصحابه على رسل قريش، بل إن النجاشي حسم الأمر بقوله “إن هذا الذي جاء به نبيكم والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة” ووعد بحمايتهم وعدم تسليمهم.
لكم نحن بحاجة في هذا الزمان الذي يعاني فيه المسلمون من صنوف من القهر والعدوان إلى انتهاج خطاب هادئ في حوار العقلاء من غير المسلمين، يدخل إلى عقولهم ومن ثمّ قلوبهم، فينضموا للدفاع عن المظلومين من المسلمين في أنحاء العالم (عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا)، كم نحن بحاجة دعاة و نخب و عامة إلى التأمل في هذا الخطاب الجعفري الرائد لغير المسلمين، كان بإمكان جعفر أن يفجر الموقف وينهي القضية دون النظر إلى عواقب هذه الإستراتيجية.
لقد اختار جعفر هذا الأسلوب الموضوعي من الخطاب فضلاً من الله ومنة أولاً، ثم حكمةً وفقهاً منه بطبيعة المرحلة. لم يكن انتهاج هذا الخطاب جبناً منه أو ايثاراً للعاجلة فحاشاه رضي الله عنه، ولم ُيتهم جعفر بالمهادنة من باقي المسلمين –أو الخيانة لا سمح الله-، ولم ُيقذف بألفاظ بذيئة فرقت المسلمين وزرعت العداءات بينهم، لقد ُختم لجعفر رضي الله بالشهادة في مؤتة ورآه النبي صلى الله عليه وسلم يطير في الجنة بجناحين مضرجين بالدماء وهو مصبوغ القوادم، فلله درّه رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في جنات النعيم آمين.
________________________
اقرأ أيضا: سبب هداية الشابين الغريبة.. قصة مؤثرة
Tags: الحبشة النجاشي حكم وأقوال حوار جعفر والنجاشي