خلُقٌ الأمانة مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين، وفضيلةٌ من فضائل المؤمنين، عظَّم الله أمرَها ورفع شأنها وأعلى قدرَها، أمر الله بحفظِها ورِعايَتِها، وفرَض أداءَها والقِيامَ بحقِّها {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [ البقرة: 283]، ويقول جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [ النساء: 58]، ونبيُّنا يقول: (أدِّ الأمانةَ إلى من ائتَمَنك، ولا تخُن من خانك) رواه أبو داودَ والترمذيّ وسنده صحيح، وأخبر النبي ﷺ أن أداءها والقيام بها إيمان، وأن تضييعَها والتهاون بها وخيانتها نفاق وعصيان، وهي أول ما يفقده الناس من دينهم، إنها الأمانة.
إن الأمانة وصية يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها حتى إنه عندما يسافر المسلم إلى أي بلد، يقول له إخوانه أو أهله وجيرانه: ((استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني.
إن الأمانة فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال الأهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فبين أنها تثقل الوجود كله، فلا ينبغي للإنسان المسلم أن يستهين بها، أو يفرط في حقها وإلا كان من الجاهلين الظالمين، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
وفي قصّة هرقل مع أبي سفيان رضي الله عنه قال هِرَقل: سألتُك عن ماذا يأمركم -أي: النبي- فزعمتَ أنه يأمُر بالصلاة والصِّدق والعفاف والوفاءِ بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صِفَة نبيّ. متّفق عليه.
الأمانة خصلة سامية، وخلق كريم، وسلوك قويم، دعا إليها الإسلام وحبب فيها، بل وأمر بها، وأعلى منزلة أصحابها، فلنعش جميعاً مع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، لنتعرف على فضيلة الأمانة وأهلها، فيا ترى ما فضل الأمانة وما منزلة أصحابها؟!
في هذا المقال
الأمانة طريق إلى الفلاح
لقد جعل الله عز وجل الأمانة سبباً لدخول جنات النعيم، ووصف بها عباده المفلحين، فقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]… ثم ذكر من صفاتهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8].
إنها صفة الأنبياء والمرسلين
الأمانة خلق يتصف به أشراف الناس وخيارهم، وأعلى الناس منزلة وأسماهم منزلة هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فقد كانت الأمانة صفتهم وشعارهم؛ لذا يقول كل واحد منهم لقومه بصدق وإخلاص: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107] [انظر سورة الشعراء قول نوح وهود وصالح وشعيب علهم الصلاة والسلام]، ولقب سيد الأنبياء محمد ﷺ بالصادق الأمين.
الأمانة علامة الإيمان لمن أحب الإيمان:
فكما أن الأمانة صفة لازمة للأنبياء والمرسلين فهي خصلة راسخة في أفئدة وقلوب المؤمنين؛ ولذلك قال ﷺ: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) رواه أحمد، وابن ماجه.
فالإيمان والأمانة صنوان لا يفترقان، فإذا ذهبت الأمانة من قلب ذهب منه الإيمان، قال ﷺ: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد.
اقرأ أيضا: “النساء شقائق الرجال” .. الميثاق الإسلامي لحقوق المرأة
الأمانة تعدل الدنيا وما فيها:
من رزقه الله الأمانة هانت عنده الدنيا وأصبحت لا تساوي شيء، وأصبح متاعها زائل، فالمؤمن إذا عرف حقيقة الدنيا تجده لا يبيع أمانته من أجل شيء زائل وحقير، قال ﷺ: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا، حفظ أمانة، وصدق حديث، وحُسن خليقة، وعفة طُعمة) رواه أحمد وصححه الألباني في الصحيحة.
الأمناء أهل للمسؤولية
الأمانة رفعت منزلة أصحابها بين الناس فكانوا موضع ثقتهم؛ ولهذا وسدوا أمورهم إليهم ولذلك قال الله على لسان ابنت شعيب: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
إن انتشار الأمانة تزيد الثقة والطمأنينة بين أفراد المجتمع، كما إنها تقوي المحبة والأخوة والتعاون بيننا والأمين يحبه الناس ويحترمونه ويتعاملون معه ويثقون به أما غير الأمين فإنهم يبتعدون عنه، وقد حذرنا رسول الله ﷺ من أن نكون غير أمناء فنصبح من ضعفاء الإيمان أو المنافقين فقال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان) [رواه البخاري ومسلم].
تتسع الأمانة في مفهومها لتشمل كل ما يحمله المسلم من أمور الدين والدنيا؛ ولهذا ندرك خطأ فهم العامة للأمانة وحصرها في أداء الإنسان للحقوق المالية فقط.
وإليكم بعض مجالات الأمانة التي ينبغي أن يرعاها ويحفظها:
أمانة الفطرة (أمانة التوحيد)
وهي الأمانة العظمى والوديعة الكبرى التي أودع الله الخلائق، وأخذ العهد عليهم بها وأشهدهم عليها، وقال – عز وجل – لهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} [ الأعراف: 172].
والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا؛ ولذا فإن حق الله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما أن حقهم عليه -سبحانه- أن لا يعذب من مات منهم وقد أدى الأمانة في توحيده كما جاء ذلك في حديث معاذ قال:
كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، فقلت: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس، قال: (لا تبشرهم فيتكلوا) رواه البخاري.
ومن الأمانة أن تنظر إلى حواسك التي أنعم الله بها عليك، وإلى جوارحك التي أسداها لك، فتدرك أنها ودائع الله عندك فتسخرها في طاعته، وتستخدمها في مرضاته، وتستعملها للجهاد في سبيله، وإن من الخيانة أن تستقوي بها على معصية أو تفتن بها عن طاعة، فأمانة العين تقتضي أن تغض بصرك عما حرم الله، وفي المقابل أن تقرأ بها الكتب النافعة لتتعلم أمور دينك ودنياك، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31].
وأمانة اللسان تقتضي أن تكفه عن محرمات الأقوال من كذب وغيبة ونميمة وسخرية واستهزاء، كما أنها تقتضي منك أن تسخره في الدعوة إلى الخير، والتحذير من الشرك، وما أكثر خيانات الألسن ووقوعها في أعراض المسلمين.
الأمانة في أداء الحقوق
حقوق الله -عز وجل- هي أعظم الحقوق، وفي مقدمتها توحيده -سبحانه- كما مرّ بنا، ثم بقية أركان الإسلام؛ ولذا فسر كثير من السلف الأمانة الواردة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
حقوق الخلق: وفيها الودائع التي تُدفع إلينا لنحفظها حيناً، ثم نردها إلى ذويها حين يطلبونها، وقد استخلف عليه الصلاة والسلام عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليُسلّم المشركين الودائع التي استحفظها، مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: (ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم) [خلق المسلم، للغزالي].
ومن الأمانة صيانة أعراض المسلمين، وستر عوراتهم، والعد عن غشهم والاعتداء عليهم.
إن من الأمانة أن تحفظ حقوق المجالس التي تشارك فيها، فلا تدع لسانك يفشي أسرارها، ويسرد أخبارها، فكم من حبال تقطعت، ومصالح تعطلت، لاستهانة بعض الناس بأمانة المجالس، قال ﷺ: (إذا حدّث رجل رجلاً بحديث ثم التفت، فهو أمانة) أخرجه أبو داود.
اقرأ أيضا: وفِرّوا من الدَّيْن فِراركم من النَّار
وحرمات المجالس تُصان ما دام الذي يجري فيها مضبوطاً بضوابط الشرع، وإلا فليست لها حُرمة، وعلى كل مسلم شهد مجلساً يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليُلحقوا به الأذى، أن يُسارع إلى الحيلولة دون الفساد قدر الاستطاعة، قال ﷺ: (المجلس بالأمانة إلا ثلاثة: مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق) رواه أبو داود،
وعليه فإن إفشاء سر إخوانك خيانة يكبر إثمُها مع عظم الضرر المترتب على هذا الإفشاء، قال الحسن رحمه الله : (إن من الخيانة أن تحدّث بسر أخيك).
ومن معاني الأمانة أن تصدُق من استشارك. قال ﷺ: (المستشار مُؤتمن) صحيح، السلسلة الصحيحة للألباني.
أي أنه أمين فيما سئل عنه واستشير فيه، فينبغي أن ترشد أخاك إلى الحق إن كنت تعلمه، ولا تضله إن كنت تجهله، وكفى بالمرء خيانة أن يرى الخير في أمر فيشير على أخيه بخلافه، قال ﷺ: (من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرُّشد في غيره فقد خانه) حسن، صحيح الجامع الصغير، للألباني.
للعلاقات الزوجية حرمتها التي يجب الحفاظ عليها وعدم كشفها إلا لمصلحة شرعية راجحة، عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده، فقال: (لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تُخبر ما فعلت مع زوجها!)، فأزمَّ القوم -أي سكتوا وجلين- فقلت: إي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهنّ ليفعلن، قال: (فلا تفعلوا، فإنما مثَل ذلك مثَلُ شيطان لقيَ شيطانة فغشيها والناس ينظرون) رواه أحمد.
وقال ﷺ: (إن من أعظم الأمانة (أي أعظم خيانة للأمانة) عند الله يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرّها) رواه مسلم.
ومن معاني الأمانة أن يحرص المرء المسلم على أداء واجبه كاملاً في العمل الذي يناط به، وأن يستنفد جهده في إبلاغه تمام الإحسان، أجل، إنها الأمانة التي يمجدها الإسلام: أن يُخلص الرجل لشغله، وأن يسهر على حقوق الناس التي وضعت بين يديه، فإن استهان الفرد بما كُلّف به -وإن كان تافها- سيستشري الفساد في كيان الأمة كلها.
وخيانة هذه الواجبات تتفاوت إثماً ونُكراً، وأشدّها شناعة، ما أصاب الدين، وجمهور المسلمين، وتعرضت البلاد لأذاه. [خلق المسلم، للغزالي].
قال عليه ﷺ: (لكل غادر لواء عند استه، يُرفعُ له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامِّة). متفق عليه أي ليس أعظم خيانة ولا أسوأ من رجل تولى أمور المسلمين فخانها وأضاعها.
لقد سمى رسول الله ﷺ الوظائف أمانات، وطلب من ذوي القوى الإحسان فيها والتيقظ لها، ونصح الضعفاء عن طلبها والتعرض لها، فقد سأله أبو ذر -رضي الله عنه- أن يستعمله فضرب بيده على منكبه وقال: (يا أبا ذر إنك ضعيف.. وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها) رواه مسلم.
خلاصة القول
- من أراد الفلاح والفوز والنجاح، فعليه أن يتسلح بهذا السلاح، إنه سلاح الأمانة.
- من اشتاق لمرافقة الرسل والأنبياء في الدرجات العلى، فليتخلق بخلقهم، إنه خلق الأمانة.
- من أراد أن يكون من أولياء الله الصالحين، فليتصف بصفاتهم، ومن صفاتهم الأمانة.
- إذا أردنا أن نتخلق بهذا الخلق أن نترك مجالس الغيبة والنميمة، وهذا من أمانة السمع والكلام.
- نغض أبصارنا عما تعرضه وسائل الإعلام من المناظر الفاتنة والصور المحرمة، وهذا من أمانة العين.
- من أراد التخلق بهذا الخلق، فليلتزم بكتمان أسرار المجالس وعدم التحدث بها حتى لأقرب الناس.
- فمن اتَّصفَ بكمَال الأمانة فقد استكمَل الدينَ، ومن فقد صفةَ الأمانة فقد نبذ الدينَ، كما روى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له).
- فالأمانة شاملة لعباداتنا ومعاملاتنا وعلاقاتنا الداخلية والخارجية وشؤون حياتنا اقتصادا وأمناً وتعليما وتخطيطاً وتنظيما لشؤون المجتمع كلها أمانة في أعناق الجميع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اقرأ أيضا: فنّ التغافل.. سرّ السعادة
Tags: أخلاق الأمانة الدين النصيجة