قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [لقمان: 12]

لقد وصف الله تعالى لقمان بالحكمة والصلاح قبل الخوض في وصاياه لابنه؛ لإشعارنا بأهمية هذه الوصايا اللقمانية، فصاحبها ذو حكمة بالغة، وعقل بالغ راجح؛ ولذلك ذكَرَها الله في كتابه؛ ليَعمل بها المسلمون حتى تقوم الساعة..

الوصية الأولى:

قال تعالى عن لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] هي الأولى والغاية التي لها خُلق الإنسان، وهي وظيفته الأساسية؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والذي يَنشأ على عبادة غير الله فقد خسرَ دنياه وآخرته، وقضى عمره في همٍّ وغمٍّ وضيق وتعاسة..

الوصية الثاني:

قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14]، وقرَن لقمان بين هذه الوصية وبين عبادة الله وعدم الشرك به، وكثيرًا ما يَقرن الله – سبحانه وتعالى – بين عبادته وحده وبين برِّ الوالدَين؛ كقوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:23]، وجاء هذا الاقتران لبيان سموِّ منزلة الوالدَين.

وبعد أن قرن لقمان بين طاعة الله وطاعة الوالدَين وبِرِّهما، بيَّن له حدود هذه الطاعة؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 15]، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق مهما علا قدرُ هذا المخلوق، ولو كان أبًا أو أمًّا..

وتختتم هذه الوصية بمن يَنبغي مصاحبتهم ومُعاشرتهم واتباعهم بقوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ [لقمان: 15]؛ أي: المستحقين الاتباع هم الذين يَخصُّون الله بالعبادة، ويُخلِصون له في الطاعات وعمل الصالحات؛ لأن هؤلاء لا يأمرون إلا بمعروف، ولا يَنهون إلا عن مُنكَر، ففي اتباعهم الفوز بالدارَين، وهذا هو هدف التربية القرآنية.

الوصية الثالثة:

﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16]، بعد ذلك يستكمِل لقمان وصياه ليبعث في النفس الوازع على مراقبة حدود الله، والوقوف عند زواجره والتزام أوامره..

اقرأ أيضا:  أم تخاطب ابنها و توصيه

الوصية الرابعة:

﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 17]:

يوجِّه لقمان ابنه في هذه الوصية إلى أداء العبادات، وعمل الطاعات، واختصَّ الصلاة دون سائر العبادات؛ لأن الصلاة هي العبادة الجامعة لكل أنواع العبادات والطاعات من صوم وحج وإحسان وغيره.. فضلاً عن كونها أكثر العبادات أداءً؛ فهي تُقام في شريعة الإسلام خمس مرات في اليوم والليلة باستثناء النوافل؛ لذا اختصَّها لقمان بالذِّكر.

 وفي توجيهِ لقمان لابنه بإقامة الصلاة إصلاحٌ لنفسه وتهذيب لأخلاقياته؛ فالمُصلِّي يَشعر بالراحة والطمأنينة من جراء الخشوع والسكون المصاحب لها، فضلاً عن أن تعاقُبَ الصلوات الواحدة تلو الأخرى تنميةٌ وترسيخ للرقابة التي سبقت الوصيةُ بها، كما أن المصلي لا يستطيع الشيطان أن يستحوذ عليه؛ لأنه يجدِّد العهد مع الله في كل صلاة، من استعاذة واستغفار..

ويُعلمنا لقمان في هذه الوصية أسلوبًا آخر من أساليب التربية، وهو أسلوب التعويد؛ وذلك من خلال أمر الأولاد بإقامة العبادات والطاعات قبل سنِّ التكليف؛ ليَعتادوها ويَألفوها، وكذا الحال مع شتى السلوكيات الإسلامية..

إقرأ أيضا:  وصية أب لابنه يوم زواجه

الوصية الخامسة:

قال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17]، يوجه لقمان في هذه الوصية ابنه إلى ما يثبت ويرسِّخ عنده المعروف، ويمنع عنه المنكر؛ من خلال الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكَر؛ لأن الإنسان إذا ما دعا إلى شيء جمع عنه من المعلومات الكثير، واستخدم كل مداركه وقدراته في سبيل دعوته إليه، ومِن ثَمَّ فهو أولى الناس بالالتزام بهذا المعروف، وهذا هو الحال مع النهي عن المُنكَر؛ فالناهي عن شيء لا بدَّ أنه يعلم مضارَّه، فهو أجدر على اجتنابه..

ويُعزِّز لقمان قيمة الصبر لابنه بقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان:17]؛ أي: من الأمور التي عزمها الله وأوجبها.

الوصية السادسة:

قال تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18]، هنا ينتقل لقمان في وصاياه إلى الآداب في معاملة الناس…

والصَّعَر: داء يُصيب الإبل فيَلوي عنقه، فاستعار هذا الأسلوب كناية عن التعالي والاستكبار على الناس، ليرفع ذلك الحكيم في نفس ابنه أن هذا السلوك الشاذ هو بمثابة داء نفسي يُصيب الإنسان مثل داء الصعَر الذي يُصيب الإبل، فيُشعر ابنه بأن هذا السلوك هو سلوك حيواني، ولا يسلكه الحيوان إلا إذا كان به مرض، فيجدُرُ بالإنسان المكرم المعافى ألا يسلك مثل هذا السلوك الذي تَنفِر منه الطباع.

والكِبْر داء نفسي واجتماعي يَشعُر معه صاحبه بأنه أفضل من غيره، فتتفكَّك بذلك أواصر العلاقات الاجتماعية، وتَزول هيبة المجتمع ووحدته من كثرة الخلافات والانشقاقات الاجتماعية التي يَجلبها هذا المرض في حال تفشِّيه.

اقرا أيضا: بائعة الخبز والمعلم.. قصة حقيقية مؤثرة

الوصية السابعة:

قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان: 18]، نظرًا لخطورة التكبُّر والاستعلاء ومضارِّه الواضحة على الفرد والمجتمع، فقد كرَّر لقمان النهي عنه لابنه، ولكن في أسلوب مغاير للسابق، لعدم إثارة الملل والرتابة، وهو في ذلك يعبر بقوله: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا  مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض، فقصد من المشي مع الناس على اختلاف ألوانهم وأشكالهم؛ أي: لا تمش مع الناس وأنت بينهم مختالاً مزهوًّا فخورًا بنفسك، بل أَلِنْ جانبَك، وتواضع لهم، فهو يُشعره بهذا الأسلوب أنه مساوٍ لجميع الناس الذين يمشون على الأرض.

وبعد أن أنهى لقمان وصيته السابعة أتبع وصيته بأسلوب حكيم في شدة التنفير، وحيث إن سلوك الكِبر والفخر على الناس لا يرضاه الله ولا يحبه، وبالتالي لا يحب فاعله، فهذا الأسلوب جاء تأكيدًا وتعزيزًا للوصيتين السابقتين، بما لا يدع مجالاً للوقوع في هذا الدَّاء العُضال.

 

الوصية الثامنة:

قال تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ [لقمان: 19]، بعد أن انتهى لقمان من نهْي ابنه عن الأمور التي تجلب الكُرْه والبغضاء بين الناس، شرع في توجيهه إلى ما يبعث على الاحترام والألفة، وبعد أن بيَّن له آداب معاملة الناس أتبعه ببيان آدابه الخاصة به، والقصد: هو الاعتدالُ والتوسط في الأمور كلها؛ فهذه دعوةٌ للاعتدال في كافة الأمور دون إفراط ولا تفريط..

الوصية الأخيرة:

قال تعالى: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ [لقمان: 19]:

وصية فيها حثٌّ على الثقة بالنفس، وتنفير من سوء الأدب؛ فالصوت المرتفع دليل على ضعف حجَّة صاحبه، فهو يُحاول أن يُفحم المخاطب ويَحمله على رأيه بعلوِّ الصوت بدلاً من الحجة والإقناع؛ لذلك فهو شاكٌّ فيما يقول، لا يقدر شخصيته، يَشعُر مع ذلك بالنقص، فيُحاول أن يستعيض عن ذلك بالحدة والغلظة في القول، لذلك فهي وصية ضمنية بمثابة دعوة وحثٍّ على التثبُّت والتروِّي قبل الكلام، والوثوق بالنفس وتقدير الذات.

وفي قوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 19]، لقمان بهذه الجملة يُزوِّد ابنه بالمعلومات في أثناء انشغاله بنُصحه وإرشاده، فجمَع فيها بين التنفير والتحذير من ارتفاع الصوت وبين إكساب المعلومات وتوسيع مدارك العقل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إقرأ أيضا:  عشرون قولاً في السعادة… ستغير طريقة تفكيرك

Tags:

سجل دخول بمعلومات حسابك

Forgot your details?